فن استئناس البشر - مدونة أحمد همام فن استئناس البشر | مدونة أحمد همام -->

فن استئناس البشر

لطالما تساءلت وتفكرت لماذا دائمًا تعم الاضطرابات في ربوع وطننا؟! ولماذا لا ننعم بالاستقرار اقتصاديًا أو سياسيًا في
حياتنا؟! والسؤال الذي بحثت عن إجابة له ردحًا من الزمن لماذا لا تنتشر الاضطرابات في دول غربية في وقتنا الحالي؟! هل يعود ذلك لتفوقهم العلمي؟ هل لأنهم أقوام اتخذوا من العلم والتحضر والثقافة طريقًا ومنهجًا؟! ولماذا لا نسمع باضطرابات هنا أو هناك في بلدانهم؟!

فوجدت الإجابة أن الأمر يعود إلى فن استئناس البشر! وأحاول في هذا المقال استعراض هذا الوضع بدءًا من تعريف الاستئناس واستعراض معالمه التي تظهر في دول غربية عدة. تحول دون توحش البشر وتؤسس لحالة من الاستئناس البشري تضاهي الاستئناس في عالم الحيوان.

 تعريف الاستئناس:

أشار معجم المعاني الجامع إلى أن "استئناس" الحيوان : سكونه وذهاب توحشه، واستأنس الحيوانُ صار أليفًا، وذهبت عنه وحشيَّته.

  سيرك الحياة:

كثيرًا ما كنا نستمتع ونحن صغارُ عند زيارة السيرك ,ونحن نشاهد تلك الحيوانات الكاسرة وهي تقف أمام أيدي مدربها بكل توحشها وطبيعتها التي جبلها الله عليها لتقف حائلة دون طبيعتها في الافتراس، فترضخ لأوامره طوعا تارة وكرهًا تارة أخرى. إنه الاستئناس الذي حول ذلك الوحش الكاسر إلى حمل وديع يسهل التعامل معه، ليحمل معه سر الصنعة بأن توفير كل احتياجات ذلك الكاسر من طعام وألفه، تطفئ نار الافتراس والتوحش داخله. وهذا ما أثبتته بحوث العلماء الذين يدرسون علم الحيوان بأن الأسد مثلًا لا يميل إلى الصيد والافتراس وبطنه ممتلئة بالطعام، إنما يتوحش فقط عند الشعور بالجوع لتلبية حاجته إلى حفظ النفس والبقاء.

 إن كان هذا في عالم الحيوان فماذا عن عالم البشر؟!

يمكن القول أن أكثر الاضطرابات الدموية في أوروبا خاصة في فرنسا كان أساسها توفر أسباب أدت إلى انتقال الإنسان من حالة الاستئناس البشري إلى حالة أشبه بالتوحش، في ظل وجود نظام إقطاعي أرهق الشعب ووصل إلى درجة من التوحش أدت إلى قيام الثورات ضده. وكان درسًا قاسيًا تعلمته الطبقة الحاكمة وسعت لتصحيحه فيما بعد بأن ضمان توفر الاحتياجات الأساسية للإنسان سوف تحول دون تحوله إلى مرحلة التوحش. فسعت إلى استئناس البشر من خلال تطبيق إعلان حقوق الإنسان وسن القوانين التي تساوي بين الجميع وتكفل لهم معيشة آمنة، بل سعت من خلال نظم تنوعت بين الشيوعية والرأسمالية إلى فنونُ في علوم السياسة تتسابق نحو استئناس مواطنيها وضمان العيش الكريم والآمن لهم.

ولقد صنف عالم النفس "إبراهام ماسلو" في ورقته البحثيّة "نظريّة الدافع البشري" عام 1943  حاجات الإنسان ووصف الدوافع التي تحركه؛ وتتلخص هذه الاحتياجات في: الاحتياجات الفسيولوجية، وحاجات الأمان، والاحتياجات الاجتماعية، والحاجة للتقدير، والحاجة لتحقيق الذات.

وإذا نظرنا إلى النظام الاجتماعي في تلك الدول حاليًا نجده أبعد ما يكون من أن يمس الاحتياجات الأساسية للبشر، بل سنت القوانين التي تكفل تلبية حاجاتهم ورغباتهم، فلا صعوبات للزواج وإن صعب ذلك فكل ما تحتاجه إلى إشباع الرغبات والغرائز حسب ثقافتهم مباح. كما أنها ضمنت توفير إمدادات الطعام الذي تحول إلى ثقافة تهتم بالرشاقة والصحة (احتياجات فسيولوجية). وكذلك وضعت نظمًا وقوانين للضمان الاجتماعي والصحي التي توفر العمل للجميع فقلت نسب البطالة في أنحاء البلاد، ومن لا يعمل تتكفل الدولة بتوفير إعانة مالية شهرية له ولأفراد أسرته، بل وتقدم له دورات تدريبية لتلحقه بالعمل المناسب حال توفر ذلك. وتتيح قروضًا لشراء المنازل  (احتياجات الأمان). وإعلاء مبدأ الحرية فحرية الفرد تقف عند إيذاء الآخرين، فلا ضير من فعل ما تشاء وقتما يشاء ما دام لا يقع الضرر على الآخرين.

 تحقيق الأحلام: (الحاجة للتقدير وتحقيق الذات)

نعم يمكنك في تلك الدول أن تحقق أحلامك وطموحاتك وتحقيق الذات سواء رياضيًا أو علميًا أو تقنيًا  أو اقتصاديًا وسياسيًا وتوفر الدعم لكل من يملك موهبة نحو استعمال قدراته ومهاراته الحالية والمستقبلية لتحقيق أكبر قدر من الإنجازات.

وبنظره سريعة نجد أن تلك الدول نجحت في استئناس البشر بدرجة امتياز من خلال تلبية رغبات الإنسان وحاجاته الأساسية.  فكانت إجابتي لتساؤلي هل يمكن أن يتوحش هذا الإنسان وهو في حالة من الاستئناس البشري تضمن له حياته وحياة من يهتم لأمرهم. بالطبع لا ستختفي كل أسباب التوحش بداخله ما دام يتحصل على كل رغباته واحتياجاته الحالية والمستقبلية.

 عقوبات اقتصادية:

لطالما تساءلت عن جدوى فرض عقوبات اقتصادية على دولة ما، وأنا على يقين تام بأن هذه العقوبات لن تمس حاكم تلك الدولة أو حاشيته بسوء، حتى أدركت من خلال كتابة هذا المقال أن الأمر لا يعدو أن يكون محاولة  تحد من قدرة هذا الحاكم أو ذاك على استئناس مواطنيه من خلال تقييد قدرته على توفير احتياجاتهم الأساسية ، وهذا ما حدث في نظام ظل قابعًا على السودان طوال ثلاثين عامًا يعاني من العقوبات الاقتصادية حتى وصل الناس إلى حالة من التوحش أدت إلى ثورة أطاحت بنظام تدهورت في عهده الأوضاع الاقتصادية والصحية والتعليمية والاجتماعية والعلاقات السياسية مع دول الجوار.

 دول ناجحة:

لن أجزم بالقول بأن الدول التي تلامس حالة من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بأنها استطاعت أن تتعلم فن استئناس البشر؛

 ولكني أجزم بأن الدول الناجحة هي تلك الدول التي جعلت المواطن همها الأول؛ فوفرت له سبل العيش الكريمة اقتصاديًا واجتماعيًا وعلميًا وصحيًا ونعمت بعلاقات حسن الجوار توطيدًا لاستقرارها وخدمة لمواطنيها. تلك هي الدول التي حظيت بتقدير وحب واحترام مواطنيها  لقادتها، فأني لمواطن أن يثور ضد دولة وفرت له كل سبل العيش الكريم واحترمت إنسانيته وسعت لتعليمه ووفرت له الرعاية الصحية والاجتماعية والدعم الاقتصادي...الخ

وأخلص إلى إن السر في استئناس البشر يكمن في توفير احتياجاتهم  الأساسية التي أشار إليها علماء النفس ومن أشهرهم إبراهام ماسلو،  فعندما نعجز عن تلبية تلك الاحتياجات نتوحش، ويذهب الاستئناس أدراج الرياح. 


 جميع حقوق الطبع والنسخ محفوظة للكاتب أحمد همام 

 

 

 

TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *