بقلم أحمد همام
منذ بدء الخليقة يعيش الإنسان في كيانات اجتماعية وتجمعات بشرية تختلف في أعدادها وطرق تنظيمها، ورغم هذا الاختلاف إلا أنها
كانت تتشابه من حيث خضوعها لعدد من الضوابط والنظم المستمدة من الأعراف والعادات والتقاليد والقيم الاجتماعية، ولسلطة من الأحكام والقوانين الوضعية، التي تسعى لتحقيق الاستقرار والازدهار لأفراد القبيلة أو الجماعة، والحفاظ على وجودها وكيانها. ولقد تطورت تلك الأحكام والقوانين والقيم على مر العصور، كما في الحضارات القديمة، مثل الفرعونية والهندية والصينية التي أقامت نظمًا سياسية واجتماعية، وتظهر تلك النظم أكثر وضوحًا في الحضارة اليونانية، حيث بداية ظهور مفهوم "الدولة" كنظام سياسي واجتماعي، ووصولًا إلى العصر الحالي الذي تتعدد فيه الدول والأنظمة السياسية والاجتماعية، التي تختلف فيما بينها حسب الأيديولوجيات السياسية والفكرية والدينية.
وفي هذا المقال أحاول الإجابة على تساؤل هام أصبح واقعًا
معاشًا، هل "الدولة" هي الدولة المستقلة ؟ أم هي الدولة المستقرة؟!
تعددت تعريفات الدولة لغةً واصطلاحًا، وأختلف كثير من علماء السياسة في
تعريف مصطلح "الدولة"، فنجد تنوعًا في هذه التعريفات، فالمعجم الوسيط عرف
الدولة بأنها جمع من الناس يستقرون في اقليم معين الحدود، مستقلون، وفق نظام خاص (د. محمد كامل عبيد: نظرية الدولة – أكاديمية
شرطة دبي، ط2 2004 ص 34)، بمعنى أن الدولة
تقوم على أربعة عناصر أساسية : السكان والاقليم والنظام السياسي والاستقلال (أي
السيادة) وتعتبر السيادة من متممات طبيعتها كمبدأ الاعتراف الدولي.
أما التعريف الوارد في اتفاقية مونتيفيديو- Montevideo بشأن
حقوق وواجبات الدول في أورغواي عام 1933. وقد عُرِّفَتْ الدولة بأنها: مساحة من
الأرض تمتلك سكان دائمون، إقليم محدد وحكومة قادرة على المحافظة والسيطرة
الفعَّالة على أراضيها، وإجراء العلاقات الدولية مع الدول الأخرى.
وتتكون الدولة في تعريفها المبسط، من مجموعة من الأفراد
يعيشون معًا بصفة دائمة، داخل حدود جغرافية معينة، ويخضعون لسلطة سياسية منظمة،
ووفقًا لهذا التعريف فإن الدولة تقوم أينما وجد شعب موحد يعيش فوق إقليم محدد
ويخضع لحكومة مستقلة.
فأركان الدولة ثلاثة أركان (د. محمد كامل عبيد: نظرية
الدولة – أكاديمية شرطة دبي، ط2 2004 ص 36) هي: العنصر البشري، والإقليم الجغرافي،
والسلطة السياسية. فالعنصر البشري وما قد ينشأ من علاقات دائمة بين أفراده تربطهم
ببعضهم البعض، واستمرارهم في الاقامة في إقليم جغرافي محدد لفترة من الزمن،
وخضوعهم لسلطة سياسية تحدد الحقوق والواجبات بين أفراد تلك الجماعة، كل هذه
العوامل إذا ما توافرت قُدر للدولة إن تنشأ.
فهل هذه الأركان المتفق عليها والتي تُعرف وجود الدولة
بمفهومها الحالي تتوافر في كثير من دول العالم؟! بنظرة سريعة وفاحصة سنتفاجأ بأن
وجود بعض الدول حسب الأركان السابقة لم يعد له وجود بالمعنى الحقيقي والواقعي، بل
لم يتبق من وجودها سوى الاعتراف الخارجي فقط، دول فقدت أهم أركان وجودها، فهي لم
تعد تسيطر على كل أراضيها وفقدت سيادتها على أجزاء واسعة من الدولة فأصبحت أشباه
دول، أو دويلات منفصلة داخل حدود الدولة الواحدة المعترف بها.
ورغم ان النظريات الفكرية والسياسية التي تفسر نشأة الدولة اختلفت وتنوعت فيما بينها باختلاف
المفكرين والفلاسفة حول أصل تلك النشأة، مثل (نظرية الحق الإلهى، ونظرية القوة،
ونظرية العقد الاجتماعي- نظرية القوة – نظرية تطور الأسرة – نظرية التطور
التاريخي...) فإن نشأة الدولة تعتبر نتيجة حتمية للتطور الاقتصادي والاجتماعي
والتاريخي لأي مجموعة من الأفراد ترتبط فيما بينها بعلاقات اجتماعية واقتصادية،
تجمعها مصالح مشتركة، و تستقر في أرض محددة.
نشأة الدولة الحديثة:
تعتبر الدولة منذ نشأتها الحديثة في أعقاب مؤتمر
وستفاليا لعام 1648، إحدى حقائق الحياة السياسية المعاصرة التي رسخت تدريجيَّاً
حتى أصبحت تشكل اللبنة الأولى في بنية النظام الدولي، وترتب على الحربين العالميتين الأولى والثانية
اختفاء دول وظهور دول أخرى كثيرة على المسرح الأوروبي، وأدت حركات مناهضة
الاستعمار في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى حصول عدد كبير من الدول في
إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية على استقلالها. وقد أدى هذا إلى نشوء الدول
العربية بشكلها وحدودها الحالية.
وقد تنشأ الدول الجديدة عن طريق الاتحاد، مثل اتحاد دولة
الإمارات العربية المتحدة، وقد تنشأ نتيجة للتفكك والانفصال وهذا ما حدث عندما
انهار الاتحاد السوفيتي وتفكك إلى عدة دول. ويمكن أن تنشأ الدول نتيجة لمطالب
انفصالية سياسية وعرقية مثل مطالب الكرد في شمال العراق وفي تركيا، أو كما حدث في
جنوب السودان.
إن وجود قيادة رشيدة، ووضوح الرؤية السياسية ساعد على
استقرار الحياة العامة في تلك الدول فوجهت جُل اهتمامها إلى التنمية فكان أن تحقق
لها الرخاء والتنمية. فيما بعض الدول الأخرى وفي ظل غياب قيادة رشيدة، وعدم وضوح
الرؤية السياسية كان من نتيجتها أن دارت في فلك الاضطرابات السياسية والانقلابات
العسكرية فخسرت مسيرتها نحو البناء والتنمية. وعانت بعض الدول العربية منذ سنوات
قليلة بما يعرف بثورات الربيع العربي، التي لم تحقق استقلال
البلاد من مستعمر أو غازي، ولكن جُل ما حققته إيجاد حالة من عدم الاستقرار واشاعة
الفوضى في بعض بلدان ثورات الربيع العربي والتي ساهمت بشكل أساسي في وأد
مقومات الدولة في بعض منها، واضعافها في البعض الآخر، واتاحت الفرصة
لتدخلات خارجية، وجماعات ارهابية متطرفة ذات أجندات وأهداف محددة تهدف إلى تقويض
الدولة واشاعة الفوضى، وأصبحت تلك الدول مسرحًا لجماعات متطرفة متنازعة من ناحية،
ونزاعات مسلحة ذات طابع قبلي وجماعات ذات مصالح دينية ودنيوية من ناحية أخرى؛
محصلتها النهائية إيجاد حالة من الفوضى، وضياع هيبة الدولة وانعدام الاستقرار.
إن مفهوم الدولة سيختفي إذا لم يتحقق الاستقرار -وليس
الاستقلال- في جميع مناطق الدولة، وإلا
ستتناقص أطرافها وتنفصل أقاليمها واحدًا تلو الآخر، وتقل
سيطرة الدولة على زمام الأمور فيها كما هو حادث في عدد من الدول خاصة في
أفريقيا والأمثلة على ذلك كثيرة: فنجد الصومال: فهي ككيان قانوني "دولة" مستقلة وعضو
في الأمم المتحدة، ولكن واقع حالها ليست بدولة، بل هي عدة دويلات متصارعة، تُنتقص
سيادتها ووحدتها من قبل جماعات قبلية وتيارات طائفية وارهابية ذات طابع ديني.
اذن الاستقرار وليس الاستقلال هو الذي
يحدد ماهيه دول عدة من بينها "دولة" الصومال، فهي ليست دولة مستعمرة من
قبل دولة أخرى، ولكنها تعيش حالة فوضى وحروب أهلية داخلية، وسيطرة جماعات ارهابية
جعلتها كيان غير فاعل، وغابت الدولة ودورها الفاعل في الحفاظ على وحدتها وحدودها. إن
انشتار الفوضى وغياب الاستقرار في الصومال ساهم في ضياع استقلالها وقوض أركان
دولتها. والأمثلة كثيرة ....
إن نشر الوعي بين المواطنين، والعمل على تدعيم ثقافة
المواطنة، ونشر قيم التسامح والمساواة، وسيادة دولة القانون والمساواة بين أفراد
المجتمع في الحقوق والواجبات، كلها قيم تعمل على زيادة التقارب بين الأفراد داخل الدولة الواحدة، ولنعلم
جميعًا أن المحافظة على أوطاننا أهم من تحقيق مصالح حزبية ضيقة أو قبلية أو حتى
شخصية، فلنلتف حول قادتنا ولنوحد أهدافنا ونسعى لنبذ الخلافات الدينية والطائفية
والقبلية ونشر التسامح بين أفراد المجتمع، والعمل على توحيد مجتمعنا، وسيادة دولة
القانون فلا فرق بين مواطن وآخر في الحقوق والواجبات فكلها عوامل تساهم في استقرار
أوطاننا وتفويت الفرصة على من يسعى لتدمير استقرارنا، ولندرك أن أكبر تهديد
لمفهوم الدولة في عصرنا الحالي ليس هو سلب استقلالها، ولكن يتمثل التهديد الأكبر
في ضرب استقرارها.
واخلص في هذا المقال إلى التأكيد على أن الاستقرار هو
أساس بناء الدولة وازدهارها، وبدونه يتهدد وجود الدولة حتى وإن كانت تتمتع
بالاستقلال والإعتراف الدولي. بل إن تحقيق أي تطور أو تقدم أو تنمية في جميع
المجالات بالدولة لن يتحقق إلا في وجود الاستقرار وليس الاستقلال.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق