منذ بداية الخليقة، يسعى الإنسان إلى تفسير ما حوله من
ظواهر طبيعية، والتي لاحظ تكرار بعضها في أوقات معينة؛ كالفصول الأربعة ومواسم
سقوط الأمطار، وغيرها; وهذا ما يمثله العلم في أبسط تعريفاته فهو
الملاحظة المنظمة للأحداث والظروف الطبيعية من أجل اكتشاف الحقائق، وصياغة
القوانين والمبادئ التي تعتمد عليها.
والعلم له أثر كبير في تطور وتقدم الأمم، وليس هناك نهضة
حقيقة لأمة بدون اهتمامها بالتعليم، ذلك أن تطور الأمم ورقيها يعتمد على مدى قدرة
علمائها في تطوير العلوم ومناهج البحث، وتطويع هذه العلوم لخدمة مجتمعاتها وتحقيق
أكبر قدر من الفائدة تعود على أفرادها.
ولأننا أمة أول ما أُنزل على رسولها محمد "صلى الله
عليه وسلم" كلمة "اِقرأ"، فإن للقراءة والعلم في حياتنا وديننا
مكانة خاصة، فقد اهتم بها السابقون، وسعوا إلى طلب العلم، فكانوا كمصابيح من نور
تضيء ظلمات ما عُرف بالقرون الوسطى في أوروبا وغيرها من البلدان الأخرى، فتطورت
العلوم وازدهرت فنونها، وبرعوا في مجالات شتى منها الطبية والهندسية وعلوم الفلك وغيرها
الكثير...
ولنا أن نتساءل – هنا- عن حياتنا المعاصرة، فهل ساهم
التعليم في تغيير مفاهيمنا نحو حياة أفضل؟ أم أننا نتعلم فقط لضمان حصولنا على شهادة أو
وظيفة ما؟
نلاحظ في بعض مجتمعاتنا أن التعليم أصبح وسيلة للحصول
على وظيفة فقط ليس إلا; فهذا الهدف الأساس من التعليم عند البعض، بل
إن البعض الآخر يخطط بأنه سوف يدرس مجالا بعينه ليضمن بعد تخرجه وظيفة بعينها،
يحددها بصورة نمطية حتى قبل أن يبدأ دراسته، ليصبح طبيبا أو مهندسا أو غيرها من
الوظائف، وجُل همه كم سيجني من المال؟ ولا يخطر على باله كيف سيستفيد ويُفيد الناس
ومجتمعه من علمه.
وحقيقة لا ضير في ذلك وليس عيبًا أن يفكر الإنسان في كسب
المال، فهو ضرورة من ضرورات الحياة، ولكن بشرط ألا يكون جمع المال من وراء العلم
هدفًا، حتى لا نجد أنفسنا أمام حقيقة أخرى مرادفة، وهي أننا انتقلنا من التعليم من
أجل العلم والتعلم إلى مهنية التعليم، وتساوينا مع التعليم المهني الفني،
الذي يُخَّرِجُ عمال وفنيين مهرة؛ وبذلك
نكون قد فقدنا مسيرة العلم التي تنتهي بالتخرج، والحصول على الشهادة لتبدأ مسيرة
جني المال.
لذلك نرى بعضًا من الأطباء قد فقدوا بوصلة العلم
والأخلاق، فنجدهم يتاجرون في الأعضاء البشرية، ويسلبون حياة الآخرين ويبيعون
أعضاءهم دون أدنى رحمة، وهم من يفترض بهم علاج المرضى وتخفيف معاناتهم، وما درسوا
وتعلموا إلا لغرض سامٍ هو إنقاذ حياة الآخرين؛ فماذا حدث؟! ولماذا انقلبت المعايير من تخفيف المعاناة إلى
التسبب بها، ومن إنقاذ حياة الآخرين إلى قتلهم وبيع أعضاءهم دون شفقة أو رحمة؛ ونرى
أيضًا بعضا من المهندسين يتهاونون في إنشاء أساسات البناء، فتكون النتيجة انهيار
مباني كاملة على رؤوس قاطنيها، تحصد بكوارثها الأرواح، وتضيع الممتلكات لأجل مبالغ
مالية تزيد من ثراءه، ولكنها تحط من قدر نفسه البشرية، وكذلك المدرس الذي يبخل
بعلمه على طلبته، ليبيعه في محافل الدروس الخصوصية، لم يعد معلمًا، بقدر ما هو
تاجر يبيع بضاعته بثمن بخس دراهم معدودة، وغيرهم الكثير والكثير.
فهل ما زال هؤلاء متعلمون أم مجرد مهنيون؟!
إن العيب ليس فيهم، والخطأ ليس منهم، بل نحن كمجتمعات من
فقدنا بوصلة العلم، وشجعنا هذا التوجه، فصرنا نتعلم وجُل همنا جمع المال، وليس
العلم من أجل العلم، ونحض أبنائنا على سلوك نفس الطريق غير واعين أو مدركين
بعواقبه، بل منا من يسأل أي مجالات العلم أكثر جنيًا للمال ليدرسها ويتخصص فيها،
هذه حقيقة وواقع.
إن التعليم الذي لا يرتقي بصاحبه، يتأثر به ويؤثر فيه، ويغير
من سلوكياته وثقافته، وطريقة تفكيره، وينير ظلام عقله، ليكون داعمًا لمجتمعه، مفيدًا
لأفراده، لا يعدوا كونه أكثر من تعليم مهني أو فني ليس إلا.
حقوق الطبع والنشر والنسخ محفوظة للكاتب
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق